الفكر الإسلامي

لا محاباة في الإسلام

بقلم:  لفضيلة الشيخ محمود عبد الوهاب فايد

 

 

 

        أخرج الإمام أحمد في مسنده ج1 ص106 عن علي -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لما زوجه فاطمة بعث معه بخميلة ووسادة من أدم حشوها ليف ورحيين وسقاء وجرتين. فقال علي لفاطمة -رضي الله عنهما- ذات يوم: والله لقد سنوت حتى لقد اشتكيت صدري قال: وقد جاء الله أباك بسبي فاذهبي فاستخدميه فقالت: وأنا والله قد طحنت حتى مجلت يداي فأتت النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: ما جاء بك أي بنية؟ قالت: جئت لأسلم عليك واستحيت أن تسأله ورجعت، فقال: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله فأتيناه جميعا فقال علي -رضي الله عنه-: يا رسول الله. والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري وقالت فاطمة -رضي الله عنها-: قد طحنت حتى مجلت يداي وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوي بطونهما لا أجد ما أنفق عليهم؛ ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم». فرجعا فأتاهما النبي –صلى الله عليه وسلم- وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطت رؤوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما تكشفت رؤوسهما. فثارا فقال: مكانكما ثم قال: ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ قالا: بلى، فقال: كلمات علمنيهن جبريل - عليه السلام- فقال: تسبحان في دبر كل صلاة عشرًا وتحمدان عشرًا وتكبران عشرًا وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثًا وثلاثين واحمدا ثلاثًا وثلاثين وكبرا أربعًا وثلاثين. قال: فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال له ابن الكواء: ولا ليلة صفين؟ فقال: قاتلكم الله يا أهل العراق ولا ليلة صفين».

     ما أبدع هذا الحديث!وما أجمله!

     فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم يزفها والدها إلى زوجها بجهاز متواضع، جهاز لايساوي سوى دراهم معدودة، جهاز لا يغريهما بالركون إلى الدنيا، والاشتغال بلذائذها، بل يزهدهما فيها ويباعد بينهم وبين الافتتان بها.

     فاطمة هذه هي بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي هو ابن عمه، وزوج ابنته، يسقي للناس حتى آذاه برد الماء، جاء فجلس إلى جوار شريكته في الحياة، يسر إليها نجواه، ويبث إليها شكواه فلا يكاد ينتهي من شكايته حتى تبادله الشكوى من مثل ما اشتكى منه كلاهما يشكو من الفقر والتعب والمرض، كلاهما يهدده هذا الثالوث الرهيب ما العلاج؟ وما الدواء؟ فكر عليٌ ولم يطل تفكيره فقد سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه سبي، وامتدت عينه، وتطلعت نفسه إلى خادم يعينه ويعينها على أعباء الزوجية، ومشاق الحياة، وذهبت فاطمة إلى أبيها بتحريض من زوجها؛ لكنها لا تكاد ترى وجه والدها الحنون حتى يغلب عليها الحياء ويتملكها الخجل فلا تزيد على السلام وهو - عليه الصلاة والسلام - لا يزيد على الرد، وتعود فاطمة كما بدأت تجر أذيالها، لم تستطع أن تعرض أمرها، وعلى من؟ على أبيها وهو أملها الباقي بعد وفاة أمها. ما أعظم الهيبة، وما أجمل هذا الحياء، عادت فاطمة إلى زوجها لتقول له:إنها استحيت أن تسأله. ولكن عليا - رضي الله عنه- يخشى أن تفوته الفرصة، ويحرص على ألا تضيع، وهو يفهم قول الشاعر

انتهز الفرصة إن الفرصة

تكون إن لم تنتهزها غصة

     وهل كل يوم يجود الزمان بسبي؟ وهل تهب الرياح دواماً بما تشتهيه السفن؟ بادر معها بالذهاب إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وماذا لو شكا بنفسه إليه؟ أليس هو ابن أبي طالب الذي كفل النبي –صلى الله عليه وسلم- في صغره، ونافح عنه بعد كبره؟ أليس هو مع ذلك زوج ابنته المحبوبة؟ فأي حرج في أن يشكو القريب إلى ذي قرابته، والزوج إلى أبي زوجته؟ وإلى من يشتكي إذا لم يشتك هؤلاء؟.

     ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع ليس هناك ما يدعو إلى التحفظ، ويحمل على التهيب، فالقرابة والمصاهرة والحاجة كلها تفتح باب الأمل، وتعبد طريق الرجاء، وتشجع على العرض، وهي مع ذلك تحفظ السر، وتصونه من الذيوع، وابتدأ علي -رضي الله عنه- يعرض شكايته على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وثنت فاطمة كذلك، كلاهما يبثه شكواه بعد أن تعسرت عليه سبل الحياة، كلاهما ممتلئ القلب بالأمل في أن يجد فرجا عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وفي هذه المرة تجرأت فاطمة، وتدفع عن نفسها تهمة التقصير، فصرحت بكل ما يدور في خلدها، ويجول في خاطرها، وأبدت رغبتها في أن يجود عليها أبوها بخادم يخفف عنها متاعب البيت، والرسول –صلى الله عليه وسلم- ينصت إليهما ويصيخ لهما في هدوء وأناة حتى إذا ما انتهيا لقنهما درساً لم يك في الحسبان، ألقى عليهما درساً قاسياً، لا يستطيعون له نسياناً ولا تناسياً، فاجأهما بدرس فيه عظة وعبرة، درس قضى على المحسوبية، وأتى على بنيانها من القواعد، درس ينادي ألاّ محاباة ولا مجاملة ولا استثناءات، درس يفيض محبة وحناناً ورأفة بالفقراء والمساكين وشفقة على البؤساء والمحتاجين، درس يسجله التاريخ بنِقْس الإعجاب على مر الأيام، وكر الأعوام، ينادي جهرة بفم الزمان «والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم».

     يا له من شعور دقيق بالمسؤولية، وإحساس رقيق بالتبعة، ليس هناك شعور يحاكيه ولا إحساس يدانيه.. إنه إحساس النبوة وشعور الرسالة، والرسالة رحمة للعالمين، فلا عجب إذا لمسنا هذه الرحمة وقد مست القريب والبعيد، بل آثرت البعيد على القريب واكتفت بأذكار يتسلى بها الأهل، ويأنس الآل بتردادها صباح مساء. وليس هناك أحد أحرص على ما سمع من أهل بيت النبوة وخريجي دار الرسالة، وحسبهم وصايا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولهم بها سلوة وأعظم سلوة.

     ما أحلى هذا الحديث، وما أحوجنا في هذه الأيام أن نفهم معناه ونسير على مقتضاه، كأني برسول الله –صلى الله عليه وسلم- يتخطى الحجب، ويرقب بعينيه النفاذتين حال هذا العصر وصورة أهل هذا الزمان؛ أولئك الذين يلون أمور العباد فيصرفونها على هواهم، ويحرمون من بعد عنهم، حتى سلب النفعيون من ذوي الحقوق حقوقهم، وتقدموا عليهم دون أن يكون لهم سبق في فضل أو خلق أو خبرة أو معرفة إلا معرفتهم بما يرضي أسيادهم من الملق والنفاق والرياء والدس والوشاية حتى انتشرت الرذائل وعمّ الفساد، وضج الناس بالشكوى.

     أرأيت كيف حارب الرسول –صلى الله عليه وسلم- الفساد، حتى لم يدع له طريقاً يسلكه، أو باباً يطرقه، وكيف بدأ بأهله فقطع أطماعهم، وعوّدهم الرضا والقناعة، وعلّمهم أن يتعبوا ويكدوا ويتحملوا حتى يستريح ضعفاء المسلمين، ويهنأ بال الفقراء والمساكين.

     لقد حمى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أموال المسلمين، وحجبها عن أنظار الأقارب والمقربين، وأوجب أن تصرف حسب حاجة المحتاجين، وبدأ يطبق هذه المبادئ على ابنته الوحيدة التي لم يبق له سواها، ولم يبق لها سواه، ولم يشفع لها أنها ابنة خديجة زوجته المحبوبة التي آزرته بمالها وجاهها وعقلها، وقابلت ربها راضية مرضية بعد أن أنفقت ما تملك في سبيل دين الله، ولم يبق لابنتها من ثرائها المشهور ما تستعين به على نوائب الحياة، أنقول: إنه –صلى الله عليه وسلم- قد تنكر لجميل أمها بعد أن ماتت أم نقول: إن زوجاته قد شغلنه عن خديجة وبنت خديجة؟ لا. لا. فقد كان عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى في الوفاء.

     روى أحمد بسنده عن عائشة قالت: «كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا ذكر خديجة أثنى فأحسن الثناء، قالت: فَغِرتُ يوماً فقلت: ما أكثر ما تذكر حمراء الشدقين! قد أبدلك الله خيرا منها. قال: ما أبدلني خيرًا منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد الناس».

     وفي رواية أخرجها الشيخان والترمذي قالت عائشة: «ما غرت على أحد من نساء النبي –صلى الله عليه وسلم- ما غرت على خديجة -رضي الله عنها- وما رأيتها قط؛ ولكن كان يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة وربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلاّ خديجة؟ فيقول: إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد. قالت: وتزوجني بعدها بثلاث سنين».

     وفي رواية للبخاري في الأدب المفرد عن أنس قال: «كان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا أتي بهدية قال: اذهبوا بها إلى بيت فلانة؛ فإنها كانت صديقة لخديجة -رضي الله عنها- إنها كانت تحب خديجة».

     وفي رواية للحاكم من حديث عائشة قالت: «دخلت على النبي –صلى الله عليه وسلم- امرأة فهش لها وأحسن السؤال عنها فلما خرجت قال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة وإن حسن العهد من الإيمان».

     إذن فما الذي يمنعه أن يطيب خاطر فاطمة بنت خديجة بتحقيق مرامها وهو الحريص على أن يكرم صدائق أمها؟، أليست ابنتها أولى بالكرم وأجدر بالعطف وأحق بالرعاية؟، بلى، وليس هو في حاجة إلى من يذكره بحق ابنته أو زوجته فهو المثل الأعلى والقدوة الحسنة في بر الأهل وصلة الرحم، بيد أنه أراد أن ينقش في أذهان الناس أنه ما كان انتماء فاطمة إليه، وما كان انتسابها لخديجة يشفع لها في الحصول على أموال الله فالحاجة عند الرسول صلى الله عليه وسلم هي الشفيع الأول والأخير، وهناك من هم أحوج من ابنته فما كان له أن يدعهم ويشتغل ببنته عنهم وهو القدوة التي يجب أن يتأسى بها المسلمون جميعاً.

     لقد اعترف عليه الصلاة والسلام بحق البطون وأصاخ إلى طلبها، فأبى أن يذعن لعطفة الأبوة، وعهد الزوجية، وصلة المصاهرة، وجاع هو وأهله في سبيل أن يوصل للرعية قوتها، ويقضي طلبتها، ويسد احتياجاتها، وأوصل لذوي الحق حقوقهم قبل أن يطلبوها، وفكر في شؤونهم قبل أن يفكروا فيها، وكد هو وأهله من أجل لقمة العيش فلم يتعطل واحد منهم اعتماداً على أموال المجاهدين،ولم ينلهم منها على الرغم من فقرهم ونصبهم ومرضهم ما نال أهل الصفة وضعفاء المسلمين.

     أيها الفقراء:

     لقد جاع الرسول صلى الله عليه وسلم ليشبعكم، وتعب ليريحكم، وضيق على نفسه وأهله ليوسع عليكم، وقدم إليكم القوت قبل أن تطالبوا به، و وفر لكم ما يلزمكم قبل أن تثوروا في وجهه، فمم تفرون؟ ‍‍‍وإلامَ تلجئون؟﴿أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمٰوٰتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ.

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان - شوال 1436 هـ = يونيو – أغسطس 2015م ، العدد : 9-10 ، السنة : 39